17 February 2018 , Educational Issues

صار “الخروج من الأرض” في متناول اليد

نضال قسوم

Starman-out-of-Earth

يوم الثلاثاء 6 فبراير 2018، أطلقت ’سبيس أكس‘ (شركة إيلون مسك) إلى الفضاء ثاني أكبر صاروخ تم بناؤه لحدّ الآن. إنه صاروخ كبير وقويّ بما يكفي لنقل أطنان من المعدّات والعديد من روّاد الفضاء إلى المريخ يوما ما، قريباً. هذا في حدّ ذاته كان إنجازاً، وقد تمّ في وقت قياسيّ، وكان الإطلاق شبه مثاليّ، إذ لم يتأخر إلا ساعة، وبسبب الرياح. ولكن، في الواقع، كان للحدث أبعادٌ أخرى أكبر.

تمّ دفع المركبة الفضائية بواسطة  ثلاثة صواريخ، وقد حملت المركبة سيارة “تسلا” (كهربائية) حمراء، كحبّة الكرز على الكعك. نجح اثنان من تلك الصواريخ في العودة إلى الأرض وهبطا معا ً، في عرض متزامن ساحر أبهر الجميع، حتى أن البعض شكّك في حقيقته ووصفه بالحركات أو المؤثرات السينمائية الخاصة.

لا، لم يكن ذلك وهماً، بل كان تجلّياُ للإبداع البشريّ، مدفوعا بالرؤيا الحصيفة ومدعوماً بالتمويل الذكيّ. كان من المفترض أن يعود الصاروخ الداعم الثالث بعد ذلك بقليل، ولكن للأسف لم يعمل كما ينبغي و فُقِد بالتالي. وكانت الخطة المرسومة أن ترسل الكبسولة الرئيسية السيارة الحمراء في مدار يقرّبها من المريخ ثم يعود بها في مسار بيضاويّ كبير حول الشمس. لكنّ خللاً حدث أيضا في هذه المرحلة جعل المدار أوسع من اللازم بكثير، وبالتالي فإنّ السيارة سوف تتجاوز المريخ وتصل إلى حزام الكويكبات.

كانت تلك بالفعل أخطاء بسيطة، ولا أقول ذلك لأنني متحمّس جدا أو لأنني أريد فقط التركيز على الإيجابيات. فالحقيقة أنّ إطلاق مثل هذا الصاروخ الكبير، والنجاح في إعادة اثنين من الصواريخ الدافعة الثلاثة إلى الأرض بشكل متزامن إلى منصّتين قرب نقطة الانطلاق، بل وإرسال جسم  كبير في مدار حول الشمس – هذه كلّها إنجازات تحدث لأول مرة، وبالذات بالنسبة لشركة خاصّة حديثة العهد. سيتم دراسة الأخطاء التي حدثت مع الصاروخ الثالث وفي مسار السيارة، وليس لديّ شكّ في أنه سيتم تصحيحها في المستقبل القريب.

أودّ أيضا أن أشيد بقدرة مسك على جذب انتباه الجمهور وإشعال خياله، فقد كان البثّ المباشر للإطلاق هو ثاني أكثر الأحداث من حيث المتابعة على يوتيوب. ومما لا شكّ فيه أن السيارة الحمراء وما رافقها من رموز وطقوس (سواء نموذج “السائق” المسمّى “ستارمان” الذي وضع في مقعد “القيادة”، وأغنية ديفيد بووي “غرابة الفضاء” تصدح في الأجواء، وشاشة السيارة الصغيرة تعرض عبارة “لا داعي للذعر” في إشارة إلى الكتاب الشهير “دليل المجرة للمتنقّل الحرّ”، وغير ذلك) كلّ تلك اللمسات حملت دلالات كثيرة وإلهاما عميقاَ. ولكنّ الأهمّ من ذلك كله، فكرة الانطلاق إلى المريخ (الكوكب الأحمر) بهذا الأسلوب الجميل والمرح في سيارة كهربائية حمراء، ذاك ما جذب خيال الجميع وجعلهم يقولون لأنفسهم “إننا ذاهبون إلى هناك حقاُ”، ويرونها كرحلة سيارة على طريق…

كان مسك قد أعلن قبل بضعة أشهر أنه ينوي إرسال مركبتين فضائيتين كبيرتين مجهّزتين بالمعدّات إلى المريخ في عام 2022، على أن تتبعهما رحلة مأهولة في عام 2024. وقت الإعلان ذاك لم يكن هناك صواريخ بتلك القدرة، ناهيك عن التكنولوجيا اللازمة للوصول إلى الكوكب الأحمر والهبوط عليه بمثل تلك الحمولة الكبيرة. وعلينا أن لا ننسى الإشعاع الذي سيتعرّض له روّاد الفضاء خلال رحلتهم ذهاباً وإياباً (ستّة أشهر على الأقلّ في كلّ اتجاه) وأثناء إقامتهم هناك (عدّة أشهر كحدّ أدنى)، ومضاعفات خطيرة أخرى. كلّ هذه الشكوك والمصاعب تبخّرت في أذهاننا مع إطلاق واحد فقط و”قيادة” واحدة مذهلة لسيارة حمراء في الفضاء.

لقد شبّه البعض هذه القفزة، أي اقتراب البشر من إرسال مركبة فضائية إلى المريخ، بالأيام التي تلت اكتشاف كولومبوس للعالم الجديد، عندما هرعت القوى الأوروبية لوضع أقدامها في القارّة الجديدة والفوز بمكاسب استراتيجية واقتصادية هائلة. بنفس الطريقة، ستنضمّ قريبا إلى شركة ’سبيس أكس‘، مؤسسات فضائية أخرى مثل شركة ’بلو أوريجين‘ (لصاحبها جيف بيزوس، مالك شركة ’أمازون‘) وناسا، وكلاهما يبنيان حاليا صواريخ كبيرة. لكنّ التشبيه البليغ الذي فضّلته هو الذي عبّر عنه مارسيلو غليسر، الفيزيائي والكاتب، الذي ربط ما بين رحلة الإنسان المقتربة إلى المريخ ولحظة “الخروج من إفريقيا”، عندما قرّرت الإنسانية الانتقال إلى آسيا ثم أوروبا. لقد ناقش العلماء الأسباب التي جعلت البشر ينتشرون “خارج إفريقيا”، وأشار بعضهم إلى ما اعتبروه “جينات الاستكشاف” التي يحملها بعض البشر – نفس السبب الذي يدفع الناس إلى تسلّق إيفرست وقمم أخرى، فقط “لأنها تلوح لهم هناك”.

حتى سنوات قليلة خلت، بدا الهبوط على سطح المريخ وكأنه حلم مستقبليّ لطيف، يقلّل من إمكانيته تكرار الخبراء لحديثهم عن مدى صعوبته والكلفة التي ترافقه. ولكن، كما هو الحال في كثير من الأحيان مع البشر، فإنّ مجرد ظهور فرد واحد ذي بصيرة وعزم دؤوب يجعل المستحيل يبدو فجأة ممكناً جداً، بل وربما في متناول اليد.

لقد أثّر إنجاز مسك بشكل كبير، وتناوله الكثيرون على نطاق واسع، وحتى أنّ بعض متابعيّ  على الفيسبوك وتويتر تمنّوا لو كان هذا الإنجاز قد تمّ على يديّ عربيّ ذي ثروة ورؤية ثاقبة. صحيحٌ أنه حتى الآن ينحصر جميع الروّاد في هذا المجال (مسك، بيزوس، ناسا، وغيرهم) ضمن جهات أمريكية، ولكنّ هذا مشروع “الخروج من الأرض” يتعلّق بالبشرية جمعاء. دعونا نأمل أنّ تتم “القفزة العملاقة” التاريخية إلى المريخ بتعاون دولي واسع، تجمعنا وتذكّرنا بأنّنا نحن البشر جنس واحد.

ترجمة أ. بسمة ذياب للمقال الصادر بجريدة عرب-نيوز يوم الجمعة 9 فبراير 2018:

www.arabnews.com/node/1242881