التجربة الروحية للرواد في الفضاء

22 July 2019 , Educational Issues

التجربة الروحية للرواد في الفضاء

نضال قسوم

مع احتفالنا بالذكرى الخمسين لأوّل هبوط للإنسان على القمر، هناك جانب يجدر بالذكر في تلك الرحلات الفضائية، ألا وهو التجارب الروحية أو الدينية للروّاد في الفضاء. ولا يتعلّق الأمر بالروّاد الذين قاموا برحلات الى القمر، بل يمتدّ  لكثيرين أمضوا أوقاتا متفاوتة في الفضاء، وخاصةً على متن محطة الفضاء الدولية(ISS) ، ممن ينتمون لأديان مختلفة، من المسيحيين والمسلمين والهندوس، وربما غيرهم.

ها هو “جون غلين”، أول رائد فضاء أمريكي دار حول الأرض، يقول إنه كان يصلّي كلّ يوم خلال رحلاته الفضائية، وصرّح للصحفيين بعد عودته من آخر رحلة فضائية له عام 1998 وهو في الـ 77 من عمره قائلاً : ” إنّ النظر في هذا الخلق دون أن تؤمن بالله لهو شيء مستحيل بالنسبة لي… إن ذلك ليقوّي من إيماني”.

في العام 1968، كانت رحلة أبولو 8 حيث أخذت المركبة الروّاد حول القمر (دون هبوط على سطحه) في يوم 24 ديسمبر، أي ليلة عيد الميلاد. وبينما كان العالم يتابع بثاً مباشراً للحدث على التلفزيون قام الروّاد  الثلاثة، بيل أنديرس وجيم لوفيل ووفرانك بورمان، بتلاوة أولى آيات الكتاب المقدس. فمع بزوغ الشمس فوق أفق القمر قال آنديرس : “لجميع الناس على الأرض، يود طاقم أبولو 8 توجيه رسالة: “في البدء، خلق الله السموات والأرض… وقال الله فليكن هناك نور فكان نور”. ومنا نحن طاقم أبولو 8 نختم بتحيتنا لكم بليلة سعيدة، وحظاً سعيداً وميلاداً مجيداً، وليبارككم الله جميعا، جميعكم على الأرض الخيّرة”.

ومن المثير للاهتمام قيام مؤسسة حركة الملحدين الأمريكيين “مادلين موري أوهير” برفع قضية ضد الحكومة، زاعمةً فيها أن ذاك الاحتفاء يمثّل تدخّلاً حكومياً في الدين، الأمر الذي يعتبر انتهاكاً للمبدأ الدستوري بفصل الدين عن الدولة، لكنّ القضية تم رفضها.

وخلال الهبوط التاريخيّ الأول على القمر (أبولو 11)، قبيل أن يخطو نيل أرمسترونغ وباز ألدرين على سطح القمر، توجّه ألدرين في حديث للناس قائلاً: “أودّ الطلب منكم لحظات قليلة من الصمت، وأدعو كلّ شخص يستمع الآن أينما كان وأيّا كان، التوقّف لبرهة للتفكّر في أحداث الساعات القليلة الماضية (حدث الهبوط الخارق للعادة)، وتقديم الشكر كلّ بطريقته/ها الخاصة”، ثم أخرج صليباً وقام بالابتهال.

لكن في كتابه “الخراب الرائع” (Magnificent Desolation) المنشور في العام 2009، كتب ألدرين: “ربما، لو تسنّى لي أن أقوم بذلك ثانيةً، لما كنت سأختار الاحتفاء بشكل مذهبي. فرغم أنها كانت تجربة ذات مغزى عميق بالنسبة لي، فإنّ تلك الطقوس التي قمت بها تظلّ ذات خصوصية مسيحية، بينما جئنا للقمر باسم الجنس البشري برمّته: مسيحيين كانوا، يهوداً، مسلمين، وثنيين، لا أدريين أو ملحدين. لكن في ذلك الوقت، لم أفكّر في طريقة  للاحتفاء بتجربة أبولو 11 أفضل من تقديمي شكري وامتناني لله. كان أملي أن يُبقي الناس الحدث بأكمله في وجدانهم وأن يروا أبعد من التفاصيل الصغيرة والإنجاز التقنيّ، معنى أعمق… شعوراً بالتحدّي وحاجة الإنسان لاستكشاف كلّ ما هو فوقنا وأسفلنا وما هو هناك خارج حدودنا”.

وقد روى روّادٌ آخرون تجاربهم الروحية التي حفّزها ارتياد الفضاء فيهم. ها هو إدغار ميتشل من طاقم أبولو 14 يتكلم عما عايشه من “نشوة ارتباط داخليّ” قائلاً: ” شيء ما يحدث لك هناك في الخارج..”

وعلى متن أبولو 15، عبّر جيم إروين وكان بروتستنانتياُ مبدئيا لكن دون تديّن قوي، فوصف حاله بأنه “أصيب بالالهام الرباني”، وعند عودته للأرض، أسّس حركة تبشيرية، وشرع يبحث عن سفينة نوح.

 

أمّا جين سيرنان، الكاثوليكي بالانتماء، فقد عاد من رحلة أبولو 17 مقتنعاً أنه لابدّ من وجود إله لتفسير هذا الجمال والكمال في الكون، فقال: “كان هناك مغزى عميق ومنطق كبير. لقد كان ذلك جميلا جداً بأكثر مما يمكن أن يحدث صدفة. يجب أن يكون هناك من هو أكبر منك ومني. وأعني هذا بالحسّ الروحيّ لا الحسّ الدينيّ”.

ومن روّاد الفضاء في وقتنا الحاضر، تيم بيك، الرائد البريطاني الذي أمضى 186 يوما على متن محطة الفضاء الدولية في العام 2016، يقول : “على الرغم من قولي إنني لست متديّناً، فإنّ هذا لا يعني بالضرورة أنني لا أؤمن جدياً بإمكانية أن خلق الكون جاء بتصميم عظيم… إنّ رؤية مدى روعة الأرض من الفضاء ورؤية الكون من منظور مختلف تساعدك في توثيق صلتك بذاك..”

وماذا عن روّاد الفضاء المسلمين؟

لقد كان الأمير سلطان ين سلمان آل سعود أوّل رائد فضاء عربي-مسلم، حيث وصل على متن مكوك الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية في يونيو 1985 ليساهم في إطلاق القمر الصناعي عربسات-ب، وقام بتصوير الهلال من الفضاء، وقام بجولة تلفزيونية تعريفية بالمحطة باللغة العربية، وكذلك قام بالصلاة وقراءة آيات من القرآن الكريم.

ورائد فضاء مسلم آخر كان لنشاطه الديني شعبية كبيرة هو الماليزي شيخ مظفر شكور، الذي ذهب إلى محطة الفضاء الروسية “مير” على متن سفينة الفضاء سويوز في أكتوبر 2007. ولقد نظمت وكالة الفضاء الوطنية الماليزية وقسم التطوير الإسلامي مؤتمراً على مدى يومين في إبريل 2006 شارك فيه 150 فقيهاً وعالماً ورائد فضاء لمناقشة “الإسلام والحياة في الفضاء”: مواقيت الصلاة والقبلة في الفضاء، نظام الطعام والصيام، إجراءات الجنازة في حالة حدوث وفاة في الفضاء، الخ.

وربما عليّ أن أنوّه هنا لبعض الادّعاءات المغلوطة التي لاقت انتشاراً كبيراً بين المسلمين ولها علاقة بالفضاء والدين، ومن ذلك ما تمّ تداوله عن سماع نيل أرمسترونغ للأذان على سطح القمرومن ثمّ إعلانه لإسلامه، و كذلك ما تم ادّعاؤه بخصوص رائدة الفضاء سونيتا ويليامز (الهندية الأمريكية المشاركة في عدة مهمّات على متن محطة الفضاء الدولية) إذ تمّ ترويج اعتناقها للإسلام، الشيء الذي لم يحدث، إذ هي هندوسية وملتزمة بديانتها.

ليس من المستغرب قيام روّاد الفضاء المتديّنين بالتعبير عن مختلف أشكال تديّنهم خلال رحلاتهم الفضائية، وخاصة في تلك اللحظات الاستثنائية. ما هو لافتٌ أكثر هو شعور الكثيرين بتجربة روحية  وإحساس عظيم بخشوع كوني عاشوه في رحلاتهم الفضائية. في الحقيقة، إنّ الفضاء يشعرنا بضآلتنا وفي الوقت نفسه بكم نحظى بقيمة كبيرة، إنه يسمو بنا ويربطنا بالذات الإلهية.

ترجمة أ. بسمة ذياب لمقال نضال قسوم الصادر في جريدة عرب-نيوز يوم الإثنين 22 يوليو 2019:

http://www.arabnews.com/node/1528791