Hubble’s-Achievements
28 April 2015 , Educational Issues
الإنجاز المزدوج للتلسكوب الفضائي ’هابل‘
نضال قسوم
في 25 إبريل عام 1990، تم وضع التلسكوب الفضائي ’ هابل‘ في مدار حول الأرض. وخلال الخمسة والعشرين عاما هذه، كانت إنجازاته تاريخية، على المستويين العلمي والثقافي. وفي حين أن التلسكوب هابل لم يكن أول قمر صناعي أو أول وسيلة فضائية لرصد الكون، فإنه سرعان ما أصبح أهمّ تلسكوب فلكي تمّ بناؤه على الإطلاق، وقد أذهل الجمهور ولفت انتباههم وأشعل مخيلتهم، كما لم يفعل أيّ مشروع علمي آخر من قبل.
وحتى قبل أن يرى النور (نور السماء)، كان لدى تلسكوب هابل بالفعل تاريخ طويل وغني.
في الحقيقة، كان اقتراح إطلاق تلسكوب فضائي قد طرح قبل حوالى 50 عاما من تحقّق وضعه في المدار بواسطة مكوك الفضاء. ففي أربعينيات القرن العشرين، كان العلماء قد لاحظوا تطور تكنولوجيا الصواريخ الفضائية، و انتبهوا الى الفوائد العلمية الضخمة التي يمكن جلبها من وضع تلسكوب في الفضاء. فلطالما شكّل الغلاف الجوي للأرض واحدة من العقبات الرئيسية التي تؤثّر سلبا على عمليات الرصد للأجرام السماوية، وذلك بسبب الاضطرابات المستمرة في الغلاف الجوي، وما يتم امتصاصه من أشعة الضوء (وخاصة في مجال الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية)، ناهيك عن الغيوم وغيرها من عوائق الاستكشاف الفلكي.
وتأكيدا للأهمية العظيمة للمشروع، جاءت تسمية هذا التلسكوب على واحد من أعظم علماء الفلك في العصر الحديث، وهو الأميركي إدوين هابل، الذي اكتشف، ولأول مرة في التاريخ البشري، مجرات أخرى ما بعد درب التبانة، وذلك في عشرينيات القرن الماضي، وأتبع ذلك باكتشاف توسّع الكون، وهو ما أشار إلى وجود بداية، أو لحظة خلق أولى. وبحلول موعد وضعه في المدار، على ارتفاع 570 كم فوق سطح الأرض، كان التلسكوب الفضائي قد كلّف 1.5 مليار دولار، ناهيك عن تكلفة الرحلة على متن مكوك الفضاء، وزد على ذلك تكاليف المهمات التالية للتصليح والمتابعة.
لكن فور وضع التلسكوب في الفضاء، أخذت القصة منحى مروعا، وذلك عندما أرسل ’هابل‘ أولى صوره إلى الأرض، وتبيّن أن الجهاز معطوب! فمرآة التلسكوب، والتي يبلغ قطرها 2.4 متر، تعاني خللا في تقعّرها بمقدار مليمتر واحد فقط، لكن بما يكفي لجعل الصورة مشوّشة ومعيبة وعديمة الجدوى. لذا انقضت السنوات القليلة التالية في إعداد ما يمكن تسميته “نظارات” مصححة لجهازنا قصير النظر، وإضافة عدد من الأجهزة، بما في ذلك كاميرا حديثة لتجعل هابل أفضل حتى مما كان مفترضاً أصلاً.
بعد هذا التحسين، كان الوضع قد تهيأ لواحدة من أعظم مغامرات الإنسان: قمر صناعي بحجم حافلة يدور حول الأرض كلّ 97 دقيقة، ينظر من مداره قرب الأرض إلى الفضاء الخارجي، نحو الكواكب والنجوم والمجرات وبقية الكون، مستكشفاً الفضاء والزمن الكونيين، ملتقطا عددا لا يحصى من الصور، ومسجلا بيانات مذهلة حول أجرام وظواهر مدهشة لا تكاد تصدّق، على مدى أيام وشهور وسنوات.
ومن خلال إنجازاته، حقّق التلسكوب ’هابل‘علامة فارقة مزدوجة: قيامه باكتشافات وحصوله على نتائج علمية على أعلى مستوى من جهة، واستحواذه على انتباه الجمهور وتقديره من جهة أخرى. وقد تجذرتّ بعض صوره كما الأيقونات في وعينا الثقافي، من اتخاذها كطوابع بريدية إلى إثارتها لنقاشات فكرية ودينية، مثل إثارة التساؤل : هل نحن وحيدون في الكون؟ وفي هذا الصدد كتب “ستيفن ديك”، وهو متخصص في تاريخ وكالة ناسا: “إن سديم النسر الشهير بـ’أبراج الخلق‘ قد أثار احساسا ورد فعل ديني لدى بعض الناس…”. وبالفعل، كان التأثير الثقافي لتلسكوب هابل غير مسبوق في أهميته.
ويمثّل التلسكوب الفضائي ’ هابل‘ حالة نادرة لم يتساءل الجمهور فيها باستنكار: “لماذا ننفق المال على ذلك؟”، على الرغم من إدراك الناس أن لا فائدة عملية (في حياتنا اليومية) تأتي من المشروع. بل إنه عندما قرر مدير ناسا في عام 2004 وقف رحلات تصليح ’هابل‘، حدث غضب عامّ عارم أدّى الى إلغاء القرار.
وعلى الصعيد العلمي، حقق التلسكوب’هابل‘ العديد من الاكتشافات التي فتحت آفاقا جديدة، ابتداء من جوارنا الفضائي وانطلاقا إلى الكون بأسره، ما جعله أحد المساهمين الرئيسيين في علم الفلك كلّ عام من السنوات الـ25 الماضية. وللتدليل على ذلك، نذكر فقط بضعة مساهمات جديرة بالملاحظة: في العام 1994 قدم ’هابل‘ صورا تفصيلية مواكبة لاصطدام المذنّب شوميكر- ليفي 9 بالمشتري لحظة بلحظة، وهي المرة الأولى التي تسنى فيها للبشرية مشاهدة مثل ذلك الحدث الكوني. وفي العام 1998 فاجأ ’هابل‘ المجتمع العلمي باكتشاف أن الكون ليس فقط في حالة توسّع، بل أن ذلك يتسارع. وقبل عقد من الزمن، قام ’هابل‘ بتصوير أنظمة نجمية-كوكبية في طور التكوّن. ومؤخرا، صوّر كواكب حول نجوم بعيدة، بل وكشف في بعض أغلفتها الجوية عن بخار الماء وأنواع من الجزيئات التي ربما تشكل لبنات بنائية أو مؤشرات على حياة فيها.
لقد حقق التلسكوب الفضائي ’هابل‘ بالفعل إنجازا فذّا غير عادي: تحقيق اكتشاف علمي تاريخي تلو الآخر وتوفير ثروة من البيانات للعلماء لفحصها وتشريحها، وفي نفس الوقت وضع الكون بين أيدينا وملء عيوننا وعقولنا، ما يجعلنا نشعر بأننا على صلة وثيقة بالكون وأننا جزء من الملحمة الكونية التي لا تزال تتكشف بشكل رائع منذ الانفجار الكبير.
لقد أصبحت السدم والمجرات والكواكب الخارجية جزء من مفرداتنا الطبيعية والجمالية مثل غروب الشمس والشلالات والجبال المغلّفة بالضباب، تثير في أذهان الجمهور الإحساس بالجمال المطلق والتعجب والخشوع الروحاني، فضلا عن الشعور باللغز والإثارة، والإحساس بالترابط مع الكون.
من المهم جدا أن لا يكون العلم، حتى في مستوياته البحثية الأعلى والأدق، غامضا، مملا، أو نخبويا. بل يمكن للاستكشاف الكوني أن يكون جميلا، مثيرا، مذهلا، محيّرا، جذابا، ومدهشا. ويمكن للعلم أن يثير فكرنا وأن يرفع تطلعاتنا. وقد فعل ’هابل‘ ذلك كله.
ترجمة أ. بسمة ذياب لمقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز يوم الخميس 23 أبريل 2015:
http://gulfnews.com/opinion/thinkers/hubble-telescope-s-double-achievement-1.1497183