Total-Solar-Eclipse

15 March 2016 , Educational Issues

الكسوف الكلي للشمس: تجربة كونية شبه-روحية

Eclipseنضال قسوم

الأسبوع الماضي، تسنّى لي أن أعيش ثلاث دقائق كونية كانت من أعظم ما عشت في حياتي. كان ذلك عندما ارتحلتُ إلى جزيرة “تيرناتي” الأندونيسية مع زوجتي وأحد الأصدقاء لمشاهدة أول كسوف كلّي بالنسبة لي.

كما يعرف بعضكم، أنا أستاذ جامعي متخصص في الفيزياء والفلك، ولذا فإنني، من خلال حياتي الأكاديمية، قمت بوصف وشرح هذه الظاهرة لآلاف الطلبة. لكن صدّقوني، لا شيء يمكن أن يهيئكم لمنظر القمر وهو يزحف صاعداً فوق الشمس، وببطء يطفئها، حتى تأتي لحظة يتغيّر فيها العالم من حولك.

لطالما قرأت عن “مطاردي الكسوفات”، أولئك الذين يسافرون من بقعة في العالم إلى أخرى فقط من أجل مشاهدة كسوف شمسيّ كلّيّ يدوم لسبع دقائق في أقصى حالاته (في حالتنا في أندونيسيا دام لثلاث دقائق). لكن سرعان ما أدركت أن التجربة التي يخوضها أولئك المطاردون أشبه ما تكون بالإدمان، وذلك عندما أقلعت طائرتنا من جاكرتا إلى تيرناتي، وكان المسافرون من مختلف أرجاء العالم. بعضهم شهد كسوفاً كلياً في مكان ما سابقاً، وآخرون (مثلي) كانوا يتحيّنون الفرصة لمشاهدته للمرة الأولى في حياتهم. في الحقيقة، ينبغي على المرء أن لا ينتظر حدوث كسوف كلّي حيث يقطن، إذ ذلك يحدث مرة واحدة كلّ 375 سنة. بل ينبغي، عند إمكانية تحمّل تكاليف السفر، أن يرتحل المرء إلى ذلك النطاق الضيّق الذي يحدث فيه الكسوف الكلّيّ، حيث يغطّي القمر الشمس لدقائق قليلة في مكان ما على الكرة الأرضية مرة أو مرتين في السنة تقريباً.

إن التهيئة للحظة العظيمة للحدث هي بحدّ ذاتها مثل تجربة ترقّبية: تشعر بأنّ شيئا ما عظيماً على وشك أن يحدث. تضع نظارات الكسوف (المرشّحات الخاصّة لحماية العينين من أشعة الشمس فوق البنفسجية)، وتشاهد القمر شيئا فشيئا يبتلع الشمس الكبيرة، على الرغم من أنه أصغر منها بـ400 مرة من حيث القطر. لكنّ كون القمر أقرب إلينا من الشمس بـ400 مرة هو ما سمح لهذه الظاهرة الرائعة أن تحدث. وليس فقط أن الأرض هي المكان الوحيد في النظام الشمسي الذي يحظى بهذا التوافق المميّز، بل لأن القمر كان أقرب إلينا قبل حقب سحيقة، وظل يتراجع مبتعدا عن كوكبنا ببطء، فإن الكسوفات الكلية لا تكون ممكنة إلا خلال 5 بالمئة من عمر الشمس (وعمر الأرض)، ولحسن الحظ أننا نعيش في هذه الفترة.

 إنّ اللحظة العظيمة للكسوف الكلّيّ هي  تجربة خارج عالمنا، بكلّ ما في التعبير من معنى. ومع اقتراب تلك اللحظة، تتسارع الأحداث وتستنفر فيها الحواسّ، إذ نرى السماء يتغيّر لونها بسرعة من الأزرق الفاتح إلى الأزرق الداكن، وتنخفض درجة الحرارة، ويزحف الشفق وينتشر على الأرض. ثم تحتجب الشمس كلياً مكوّنةً مشهداً مذهلاً في السماء: إنه إكليلها الجميل متمدّداً مثل فراشة كونية بيضاء، والكواكب وقد بدأت بالظهور على جوانبها، فيما الغيوم تظهر وكأنها مرتبطة ببقية النظام الشمسي بشكل ما. مشهد وصفه أحدهم بأنه حقيقةً “لوحة سماوية معدّلة بالفوتوشوب”ّ.

الوقت يمرّ لكنّ العالم يبدو معلّقاً. الناس يرمقون بلهفة، يهتفون ويصفّقون، يترنّمون ويتلون الأدعية الدينية. فهم يشعرون أنهم صغار حجما ولكنهم في نفس الوقت مرتبطون مع باقي العالم. ثمة شعور برابطة كونية تترسّخ بين الناس، توحّدهم مع الأرض والسماء… هو شعور وصفته “كيت روسو”، مؤلفة كتاب “الإدمان الكلي: حياة مطارد الكسوف” كالتالي: “إنك لا تشاهد الكسوف الكلّيّ، بل إنك تعيشه، تنغمس وتغرق فيه، إنه يغمرك تماما”.

ثمّ… إذ بها لحظة الإشراق! ضوء عظيم ساطع يبهرنا، فالقمر قد تزحزح قليلا عن الشمس وبدأ ينزاح عنها، سامحاً لجزء صغير من الشمس بالظهور، لكنه كافٍ لطوفان من أشعتها لينبثق، موقظاً إيانا من نشوتنا.

ندرك أن اللحظة الكبيرة للكسوف الكلي قد انتهت فجأة، كنا جميعنا مفتونين وفي ذهول عن شعورنا بالوقت. وعندها تدرك أن الكون ليس ساكناً جامداً. ورغم الإحساس بأن ما كان هو حلم مرّ كلحظة واحدة ، فإن الظاهرة بأكملها دامت قرابة ساعتين ونصف، منذ لحظة التلامس الأولى (عندما “لمس” قرص القمر قرص الشمس) وحتى لحظة التلامس الأخيرة (عندما “انفصل” القمر عنها)، كان خلالها النظام الشمسي كله يتحرك أمام أنظاينا.

لساعات طويلة بعد انتهاء الحدث، استمرّ شعور الناس بالذهول والرهبة والخشوع. إن رؤية الكواكب في رابعة النهار يعطي الانطباع بأننا انتقلنا فجأة إلى الفضاء. ويتوق الناس لاسترجاع اللحظة ويحاولون فهم الذي قد عايشوه للتوّ… لقد جرى كلّ ذلك بسرعة كبيرة.

حينها فقط يمكننا أن نفهم لماذا كان البشر ولحقب طويلة يشعرون بالخوف تجاه الكسوفات، وكانوا يرونها طوالع سيئة وأحداثاً كارثية، متوجّسين من الأرواح الشريرة لدرجة أنهم يطلبون من الحوامل الاختباء خوفاً على أجنّتهنّ. فعلا، لا نؤاخذ  المجتمعات البدائية، التي لم تحظ بفلكيين يتوقّعون مواعيد الكسوفات ويعلنونها سلفاً، إذا ما اعتبرت أن يوم القيامة أو شيئا من هذا القبيل قد حان بقدوم الكسوف.

أما اليوم، فإننا نعرف ماهيّة الكسوفات، وكيف تحدث، وكيف كانت ولا تزال مفيدة علمياً (من استغلالها في تعرّف على الغازات المكوّنة للشمس الى اختبار نظريات آينشتين). لكن مع إدراكنا أن الأرض هي المكان الوحيد في النظام الشمسي الذي يتمتّع بحدوث هذه الظاهرة العظيمة (ومن الأرجح أنها كذلك في معظم أرجاء مجرتنا درب التبانة)، فإنّ الخوف الذي ساد العصور السابقة قد انقلب إلى شعور كونيّ بالسلام، بل وبالنسبة للكثيرين صار نوعاً من التجربة الروحية بكلّ ما فيها من رهبة وخشوع وجلال.

في منطقتنا، سيكون هناك فرصتان لكسوف حلقيّ (شبه كلي) في المستقبل القريب: في 26 ديسمبر 2019، وفي 21 يونيو 2020. فرصتان ثمينتان، فلا تتركوها تفوتكم.

ترجمة أ. بسمة ذياب لمقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز يوم الإثنين 14 مارس 2016:

http://gulfnews.com/opinion/off-cuff/solar-eclipse-an-awe-inspiring-cosmic-experience-1.1689440